كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



- وقال في جانب الغائب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}.
ومن أراد أن يقف على المكرمتين الأوليين فليطلبهما في كتب التفسير. ولنبدأ بالآية التي معنا.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)}.
يحذّر اللّه المؤمنين في هذه الآية، ويرشدهم إلى وجوب عدم الاعتماد على أقوال الكذبة الفاسقين، فإنّ الاستماع إليهم يوقع الفتنة بين المؤمنين، فيفشلوا، وتذهب ريحهم، وتتمكن العداوة والبغضاء من نفوسهم، وحينئذ يعضّون أصابعهم ندما، ولا ينفع الندم.
وقد يبدو أنّ مقتضى الترتيب أن تؤخّر آية الفاسق بعد آيات المؤمنين، ولكن لما كان الاستماع إلى الفاسق والاعتماد عليه قد يؤدي إلى فتنة وفساد كبير قدّم الكلام فيه، اعتناء بأمر المسلمين، واهتماما بأمر سلامتهم من الفتن، التي يجرّها الاعتماد على من يوضعون خلال المؤمنين، يبغونهم الفتنة.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، وقلت: يا رسول اللّه أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول اللّه رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأت، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من اللّه عزّ وجلّ ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول اللّه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان رضي اللّه عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق، فرجع، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتّى استقبله البعث، وقد فصل عن المدينة، قالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم:
إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنّك منعته الزكاة، وأردت قتله قال: لا والذي بعث محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟» قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا رآني، ولا أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خشية أن تكون سخطة من اللّه عزّ وجلّ ورسوله، قال:
فنزلت الحجرات: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ}.
ولم يختلف الذين رووا أسباب النزول في أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان الشخص الذي جاء بالنبإ، إنما اختلفوا في أسباب قوله، فمنهم من روى أنّه خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث وقد خرجت في انتظاره، فظنها خرجت لحربه، ومنهم من روى أنّه كان بينه وبينهم موجدة في الجاهلية، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنّهم قد تركوا الصلاة، وارتدوا، وكفروا باللّه، فلم يعجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وبعث خالد بن الوليد إليهم، وقال: «ارمقهم عند الصلاة، فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم، وإلا فلا تعجل عليهم».
وهنا يختلف الذين رووا سبب النزول مرة أخرى، فيروي بعضهم ما قدمنا من أنّهم قدموا، وقابلوا البعث حيث فصل من المدينة.
ويروي بعض آخر أنّ خالد بن الوليد رضي اللّه عنه خرج إليهم، ودنا منهم عند غروب الشمس، فكمن حيث يسمع الصلاة، فرمقهم، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس، فأذّن ثم أقام الصلاة، فصلوا المغرب.
فقال خالد: ما أراهم إلّا يصلون، فلعلهم تركوا غير هذه الصلاة، ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذّن مؤذنهم، فصلوا. فقال: فلعلهم تركوا صلاة أخرى، فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدّم حتى أطل الخيل بدورهم، فإذا القوم تعلّموا شيئا من القرآن، فهم يتهجدون به من الليل، ويقرؤونه. ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذّن ثم أقام، فقاموا فصلوا، فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم، فقالوا: ما هذا؟ قال: خالد بن الوليد.
قال: يا خالد ما شأنك؟
فقال: واللّه أنتم شأني، أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: إنكم كفرتم باللّه وتركتم الصلاة، فجعلوا يبكون، فقالوا: نعوذ باللّه أن نكفر باللّه أبدا، فصرف الخيل وردّها عنهم، حتى أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنزل اللّه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}.
وقد عرفت مرارا أنّ الآية تكون عامة، وإن نزلت على سبب خاص، ما دام لفظها عاما، وقد قال الحسن: فو اللّه لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنّها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء.
والفاسق: الخارج من حدود الشرع، من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج عن قشره، وسمي به الفاسق لانسلاخه عن الخير، والفسق أعمّ من الكفر، لأنه يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، ولكن تعورف فيما كان بكثيره، يكثر ما يقال لمن كان مؤمنا، ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.
والتبين: طلب البيان، وقد قرئ {فتثبتوا} بدل فَتَبَيَّنُوا وهما متقاربان، إذ التثبت طلب الثبات، وما كان ثابتا كان قريب المعرفة. ويرى بعض اللغويين أنّه لا يقال للخبر نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة، ويكون معنى الآية: إن جاءكم أيّ فاسق بنبإ عظيم، له نتائج عظيمة، فلا تقبلوه بادئ الأمر، بل توقّفوا فيه، وتثبتوا، حتى تأمنوا العاقبة.
والتعبير بكلمة (إن) التي هي (للشك) للإشارة إلى أنّ الغالب في المؤمن أن يكون يقظا، يعرف مداخل الأمور، وما يترتّب عليها، وإذ يكون هذا شأن المؤمنين فلا يجيئهم كاذب يكذب عليهم، وإن وقع ذلك يكون على ندرة وقلّة.
وقوله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ} تعليل للأمر بالتبين، وهو إمّا مقدّر فيه لام التعليل قبل (إن) و(لا) النافية بعدها، أي فتبينوا لئلا تصيبوا، وإما مقدر فيه (الكراهة) أي كراهة أن تصيبوا. وقوله: بِجَهالَةٍ أي متلبسين بجهالة، أي جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتهم أمرهم وما هم عليه.
و (أصبح) هنا بمعنى (صار) والمعنى: فتصيروا من بعد تبيّن الأمر نادمين، ويستمر معكم هذا الندم.
والندم ضرب من الغم، وهو أن يلحق النادم الغمّ على ما وقع منه، يتمنى أنه لم يقع، وهو غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزوم، لأنه كلما تذكر فعله راجعه الندم.
وقد استدلّ بالآية على أنّ الفاسق أهل للشهادة، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، قاله الألوسي، وقال الأثري: إنّ العبد إذ شهد لا تقبل شهادته، ولا يحتاج فيها إلى التبيّن.
ومذهب الحنفية أنّ الفاسق لا تقبل شهادته وإن كان أهلا لها، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا، وينفذ قضاؤه، وتقبل شهادته عندهم في النكاح، لأنّ الشهادة من باب الولاية، وهو لمّا جاز أن يكون وليا على الزوجة في مالها، جاز أن يلي عليها في بضعها، وعبارته في النكاح عبارة، وتعبير عن ثبوت العقد لا إلزام فيها، ومن مذهبهم ألا تقبل الشهادة من الفاسق فيما فيه إلزام، والإلزام الذي في النكاح لم يجئ من الشهادة، وإنما جاء من التزام المتعاقدين في العقد.
واستدلّ بالآية أيضا على قبول خبر الواحد العدل، وتقرير الاستدلال بها من وجهين:
الأول: أنه قد رتب الأمر بالتبين على مجيء الفاسق لنبأ، فيفيد ذلك أن الفسق علة للتبين، ومعنى كون الشيء علة لشيء آخر، أن يكون له تأثير في وجوده، لا يوجد إلا معه، وإلا فلو وجد دونه لما كان علة له، والفرض أنّه العلة.
وقد رد هذا بأنّ إثبات العلية بطريق ترتّب الحكم على الوصف إثبات بظني، ولا ينهض حجة في إثبات أصل من الأصول، ولأنّ الاقتصار على شيء لا ينفي ثبوت الحكم فيما عداه.
والثاني أن التبين مشروط بمجيء الفاسق، ومفهوم هذا الشرط انعدام الأمر بالتبين عند عدم الشرط، فيثبت انعدام التبين في خبر الواحد العدل فيكون مقبولا، وهو مردود، بأنّ ذلك قول ناشئ من اعتبار مفهوم المخالفة حجة، وهو مختلف فيه، فلا يثبت به أصل من الأصول، لأنّ الظواهر لا تكفي في إثبات المسائل العلمية.
واستدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال، لأنّها دلت على أنّ الفسق شرط وجوب التثبت والتبين، فيقتصر فيه على محل وروده، ويبقى ما وراءه على الأصل، وهو القبول.
وأنت ترى أنّ هذا استدلال مبني على أنّ الأصل العدالة. والخصم ينازعهم فيه، ويقول: بل الأصل عدمها، والظاهر أنّ مسألة قبول المجهول مبنية على هذا، فإن صحّ أنّ الأصل العدالة، فهو باق على عدالته، حتى يتبين خلافها، وإن كان الأصل عدمها، فهو داخل في الفسق، ويكون المراد منه من لم تتبيّن عدالته.
واستدلّ بالآية أيضا على أنّ من الصحابة من ليس بعدل، لأن اللّه تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة، فإنّها نزلت فيه، وسبب النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق، وتكون الآية ردّا على قول من ذهب إلى أنهم كلهم عدول ولا نبحث عدالتهم في رواية ولا شهادة.
والمسألة خلافية، وفيها أقوال كثيرة:
أحدها، هذا وعليه أكثر العلماء سلفا وخلفا.
والثاني: أنّهم كغيرهم، فيبحث على العدالة فيهم كما يبحث عنها في غيرهم رواية وشهادة، إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين أبي بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما.
وثالثها: أنهم عدول إلى زمن عثمان، ويبحث عن عدالتهم من مقتله.
ورابعها: أنهم عدول إلا من قاتل عليا والمسألة لها موضع غير هذا، ولكل أدلته وبراهينه.
ثم إنّ الفاسق قسمان:
قسم فاسق غير متأوّل، وهذا لا خلاف أنه لا يقبل خبره.
وقسم فاسق متأوّل: كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، وهذا قد اختلف فيه، فمن الأصوليين من ردّ شهادته وروايته، ومنهم من قبلهما.
فأما الشهادة فلأنّ ردها لتهمة الكذب، والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه، بل قد يكون أمارة الصدق، لأنّ الذي جعله يذهب مذهبه هو تعمقه في الدين، والكذب حرام في كلّ الأديان، ومن المبتدعة من يقول: بكفر الكاذب.
وأما الرواية: فلأنّ من احترز عن الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم أشدّ تحرّزا، فهذا يجب أن يكون حالهم ما لم يظهر منهم ما ينافيه، وعلى هذا جمهور أهل الفقه والحديث.
وذهب الشافعي وبعض العلماء إلى الأول، لأنّ الآية إنما دلّت على التثبت من قول يقوله الفاسق، وظاهر أنّ ذلك إنما كان لأنّ الغالب في الفاسق أن يكذب، فإذا ظهر أنه ممن لا يكذب، فالآية لم تعرض له، والذين تقبل شهادتهم من المبتدعة قوم يتشدّدون في الدين، لا يبيحون الكذب، فلم يكونوا ممن تناولته الآية الكريمة.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}.
يرى الزمخشري أنّ الجملة المصدّرة (بلو) لا تكون كلاما مستأنفا، لأدائه إلى تنافر النظم. ولكن تكون كلاما متصلا بما قبله، وهي هنا (حال) من أحد الضميرين في (فيكم) المستتر المرفوع، أو البارز المجرور.
والمعنى: أنّ فيكم رسول اللّه على حال يجب عليكم تغييرها، وهي أنّكم تحاولون معه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي، وينزل على إرادتكم فعل المطواع لغيره، التابع له فيما يرتئيه. وهو لو فعل ذلك لعنتم، ووقعتم في العنت والهلاك، يقال: فلان يتعنّت فلانا، أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك. ويقال:
أعنت العظم إذا هيض بعد الجبر. وقد يستفاد من هذا أنّ بعض المؤمنين كانوا يزيّنون للرسول صلى الله عليه وسلم الإيقاع بقوم الحارث وتصديق الوليد في نبئه، وأنه كانت تفرط منهم نظائر ذلك من الهنات، وأنّ فريقا منهم كان يتصوّن، ويزعم إيمانهم، وجدّهم في التقوى فلا يجسرون على ذلك، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ}.
ويرى بعضهم أنه يجوز أن يكون قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} كلاما مستأنفا، وذلك أنّه لما قال اللّه تعالى: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} كان ذلك بمثابة أنّ طريق الكشف والتبيّن سهل وممكن، وهو الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. لأنه فيكم، يبيّن لكم، ويرشدكم، وفي ذلك تنزيل لهم منزلة الجاهلين بمكان الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وبوظيفته من البيان والإرشاد بينهم.
فاتجه من ذلك: أن يسأل سائل: ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط، وقرّعوا بجهل منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم؟
فجاء قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} مومئا إلى ما كان منهم من محاولة أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم في الذي يرون، واتباع إشارتهم فيما يقولون.
وذلك أنّه بيّن لهم النتيجة التي تترتب على نزوله على إرادتهم، والخضوع لإشارتهم، فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وأنت ترى أن هذا القول وإن كان حسنا من حيث المعنى، إلّا أن فيه تغاضيا عن أنّ قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} معطوف (بالواو) وهو مرتبط بما قبله، وفيما ذهب إليه هذا البعض ما يفضي بترك العطف.
وظاهر كذلك أنّ ما ذهبوا إليه فيه إضمار لا حاجة إليه، ولا ضرر في جعل الجملة {لَوْ يُطِيعُكُمْ} حالا من أحد الضميرين، على ما ذهب إليه الزمخشري. والمعنى على أحد الوجهين: هو جعلها حالا من الضمير المستتر، وأمّا الوجه الآخر فالمعنى: {واعلموا أنّ فيكم رسول اللّه} حال كونكم على حال تتنافى مع مقامه بينكم، تلك الحال هي إرادتكم أن ينزل على إرادتكم، وذلك ضارّ بكم، يترتب عليه عنتكم وهلاككم.
وجاء قوله: {لو يطيعكم} على صيغة المضارع بدل الماضي للدلالة على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إطاعة مستمرة، بدليل قوله تعالى: {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار، تقول: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، تريد أنّ ذلك شأنه، وأنّه مستمر على ذلك.
وقوله تعالى: {وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ} استدراك على ما يقتضيه الكلام من وقوع العنت بهم. والمعنى: أنّ ما هم عليه كان يقتضي هلاكهم، ولكن منع من ذلك أنّ اللّه هدى فريقا منهم، وحبّب إليه الإيمان، فآمن، وزينه في قلبه، فأقام عليه، فلم يكن شأنه شأن أولئك الذين يريدون قلب الأوضاع، بأن يتّبعهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي يرون.